بقلم لِيلي البينو أكول
لماذا يكتب المثقف الشمالي بكثافة عن مشكلة الجنوب و عن الجنوبيين في هذه الفترة الحرجة جداً في تاريخهم؟ ما الذي يدفعه للكتابة؟ هل اكتشف فجأةً أن هنالك مشكلة في الجنوب؟ هل هو إيمانه بقضية الجنوب، أم هل هي صحوة ضمير متأخرة؟ هل تأكد أن الجنوب ذاهب لا محال، أم هل طغى عليه غيرة المواطن المحب لوطنه فبدأ يفعل كل ما بوسعه لحماية تراب الوطن؟ لماذا يعلو صوت المثقف الشمالي هذه الأيام داعياً للإخاء بين الجنوب و الشمال؟ لماذا يعلو صوته منادياً بنسيان الماضي و فتح صفحة جديدة بين أبناء الوطن الواحد؟!
بصراحة، الإجابة على هذه الأسئلة ليست بالضرورة الملحة! فكلنا يعلم أن المثقف الشمالي، و إن اختلفت الأزمنة و الأنظمة، يظل كما هو لا يتغير. يظل فاقداً للمصداقية في تناوله لقضية الجنوب. يظل مستخفاً بعقل الجنوبيين، بل متخذاً من المكر حجة يقارع بها حجتهم. هكذا عرفناه، هكذا عهدناه! فكلما رأى أن الجنوبيين بصدد اتخاذ قرارات مصيرية، يضحى مهموماً مشغول البال، لا يهدأ ولا يغمض له جفن إلا بعد أن يجد منفذاً يحشر نفسه من خلاله في أمورهم. و بمجرد أن يجد لقدميه موضعاً بينهم، لا يتوانى في خلط الحابل بالنابل ليشغلهم بسفاسف الأمور التي تصرفهم عن القضايا الأساسية. لذلك عندما نتساءل: لماذا يعلو صوت المثقف الشمالي في غضون هذه الأيام و لم يبقى للاستفتاء إلا بضعة أشهر؟ لماذا يقيم الندوات السياسية للتحاور حول مستقبل الجنوب؟ و لماذا يكتب الأشعار الوطنية و يتغنى من جديد ب "ما في جنوب بدون شمال... كلنا إخوان"؟ عندما نتساءل، فأسئلتنا ليست للإجابة، و لكنها للتفاكر والتمعن لعلنا نجد فيها عبراً تفيد.
نعم، لماذا يتحدث المثقف الشمالي عن قضايا الجنوب و هو صاحب الضمير الميت، فاقد البصر و البصيرة، أبكم عديم الكلام عندما كان الجنوب يحتاجه؟ أين كان عندما كانت طائرات الانتوف تقذف القرى الجنوبية و تقضي على الأخضر و اليابس؟ أين كان عندما قام الجهاد ضد مواطني الجنوب العزل، أيام في ساحات الفداء و" يلا يا سيف العبور...ارمي بكل الرصاص" أقطعوا رؤوسهم لتفوزوا بالجنة و بالحور العين؟ و من منا لا يعلم أين كان المثقف الشمالي آنذاك؟ كان مغموراً في اللامبالاة لأن لا صلة تربطه بالجنوبيين. كان يسير المسيرات المليونية لنصرة أشقائه العرب في فلسطين. كان ينظم الحملات الطوعية لجمع الغذاء و الكساء لأطفال فلسطين في الوقت الذي كان فيه أطفال الجنوب يرتعدون برداً و يموتون جوعاً.
نعم، هذا هو المثقف الشمالي الذي نعرف. هذا هو المثقف الشمالي المعروف بانتمائه إلي تلك المؤسسة الفكرية المشئومة، مؤسسة الاستعلاء العرقي و الديني باسم العروبة و الإسلام. بل هو صانع مؤسسة الشؤم و راعيها، فكيف يأتينا اليوم "في ثياب الواعظين"؟ كيف يطلب منا أن نصغي إليه و هو الذي لم نسمع له قط صوت حق فيما يخص قضايا الجنوبيين؟ كيف لنا أن نثق به و بيننا تاريخ طويل من عدم المصداقية و نقض العهود؟ كيف لنا أن نثق به و هو أول من سيبصق في وجه "أخيه" الجنوبي إذا دقت طبول العروبة...و هو أول من سينفش ريشه و ينتفخ و يضرب على صدره، كعادته المعهودة، صارخا: أنا عربي أصيل ولد البلد أمشي يا جنوبي يا عب؟! كيف لنا أن نثق به و هو أول من سيلوح بسيفه في الهواء إذا دقت طبول الجهاد... و هو أول من سيمتطي جواده و يركض خاطباً في الناس: "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، حيّ على الجهاد، أقتلوهم و مزقوهم إرباً إربا فهم الكفرة حطب النار؟ لن يحمينا المثقف الشمالي من بطش العروبة و لن يحمينا من سيف الإسلام. هذه هي الحقيقة التي يعيها جيداً، هذه هي الحقيقة التي نعرفها عنه! و مع ذلك، يظل منهمكاً في قضية الجنوب، متجاهلاً، مع سبق الإصرار و الترصد، أن الدين و الهوية من أهم عناصر القضية.
لماذا يؤيد المثقف الشمالي فكرة السودان الجديد في الوقت الذي اقتنع فيه الجنوبيون أن السودان الجديد حلم فات عليه الأوان؟ لماذا يتحدث بشغف عن بناء دولة جديدة و هو يعلم علم اليقين أن السودان الجديد دولة لم و لن تكن في ظل هذه المساحة الجغرافية التي تحوي السودان؟ فالسودان الجديد دولة مدنية لا علاقة لها بدولة الشريعة التي نراها اليوم. السودان الجديد دولة مواطنيها سواسية، يتساوون أمام القانون و الدستور في الحقوق و الواجبات، و ليست دولة تعطي فئة معينة القدح المعلى في حق المواطنة. السودان الجديد دولة لها سيادة ممثلة في حكومتها المنتخبة من قبل الشعب، و ليست دولة تحكمها من خلف الكواليس نخبة متطرفة تركز جل جهودها في إصدار المقاييس للباس المرأة و الفتاوي التي تستهدف غير المسلمين. و لكن هذا هو المثقف الشمالي كما عهدناه، طامعاً في أخذ الجمل بما حمل: يريدها دولة عربية، يريدها دولة إسلامية، و يريدها دولة موحدة!
لماذا يتنبأ المثقف الشمالي بفشل دولة الجنوب إذا اختار الجنوبيون الانفصال، و يتجاهل فشل الدولة السودانية التي هو جزء لا يتجزأ منها (هل توجد على وجه هذه الأرض دولة أكثر فشلاً من دولة رئيسها مجرم حرب تطارده المحاكم الدولية لأنه قام بقتل أكثر من نصف مليون مواطن؟)! هل أدرك المثقف الشمالي الآن فقط أن الجنوب ليس به مقومات دولة؟ لماذا لا توجد بنية تحتية في الجنوب؟ لماذا يفتقر الجنوب إلى أبسط مقومات الحياة؟ أليس الجنوب جزء من السودان الوطن الموحد منذ خروج الإنكليز في عام ١٩٥٦؟ و لكن هذا هو مثقف الشمال كما عرفناه، فاقداً للمصداقية في تناوله لقضية الجنوب. لذلك يرفض الإقرار أن ما نراه بالجنوب اليوم ما هو إلا نموذجاً مصغراً لما ستؤول إليه أوضاع الجنوب في السودان الموحد! جنوب يتحكم فيه أولاد البلد، جنوب حكومته مكبلة مقيدة الأيدي من قبل السلطة المركزية الشمالية، التي تضع العراقيل أمام كل خطوة يتخذها من يقوم على أمر مواطنيه. جنوب به مليشيات دججتها السلطة الشمالية بالسلاح و المال لخلق البلبلة و عدم الاستقرار. جنوب يُستنفذ موارده و ثرواته الطبيعية لبناء الشمال. جنوب كل ما يهم الشمال فيه أبار البترول و ليس تنمية الإنسان و تطويره.
لماذا يختار المثقف الشمالي لنفسه المقاعد الأمامية ليدلي بدلوه في قضايا الجنوب كيف يشأ و حيثما يشأ؟ لماذا يعتقد أن الجنوبيين ليس لديهم من النضج السياسي و الفكري ما يؤهلهم للحديث عن الانفصال أو مخاطر الوحدة، ناهيك عن إدارة دولة جديدة بالجنوب؟ لماذا يتوهم المثقف الشمالي أن عليه هو فقط بالتفكير و التحليل و على الجنوبيين بنعم يا سيدي، أصدقت القول يا سيدي، لك السمع و الطاعة يا سيدي؟ لماذا ينعت كل جنوبي يتحدث عن الانفصال بالرجعي قليل التفكير، و يرفع من شأن أيّ جنوبي يتحدث عن وحدة السودان، حتى من كان لا شأن له، حتى من كان من ذوي النفوس الضعيفة اللذين يسعون لبيع القضية برخص التراب؟ لماذا يحاول المثقف الشمالي تمويه الرأي العام بالإدعاء أن إسرائيل هي من تدفع الجنوب للانفصال حتى يتيسر لها السيطرة على منابع مياه النيل؟ ما علاقة إسرائيل بقضية الجنوب؟ و لكن هذا هو المثقف الشمالي كما عرفناه، مستخفاً بعقل الجنوبيين، مستهتراً بمشاعرهم في تناوله للقضية التي شكلت وجدانهم لسنواتٍ طوال.
لماذا يعيد المثقف الشمالي كتابة التاريخ؟ لماذا يطلب منا أن ننسى الماضي و ليس لدينا ماضٍ يُنسى؟! نحن الجنوبيين أصحاب قضية، و صاحب القضية لا ينسى حتى لا يتهاون. كيف يطلب منا أن ننسى الماضي و ليس لدينا ماضٍ يُنسى؟! نحن الجنوبيين أصحاب تاريخ والغافل فقط هو الذي يرمي بتاريخه في المذبلة، و نحن ليسنا بغفلة! كيف يطلب منا المثقف الشمالي أن ننسى الماضي و ماضي الجنوب هو حاضرنا وهو ما سنبني عليه المستقبل؟ فماذا يريد المثقف الشمالي و متى يكف عن النفاق؟
Lily A. Akol